جعلت إذاعة الزيتونة من حبة الزيتون شعارا لها بدلا عن شجرة الزيتون. وإن كان من البديهي بالنسبة لي وللكثيرين أن الرمز الديني "الزيتونة" يحيل على الشجرة لا على الحبة، فالأمر لا يبدو كذلك بالنسبة للمسؤولين عن الإذاعة المذكورة. ولا أدري إن كان اختيار الرمز إعتباطا أم كان نتيجة بحث. ألا يعرف هؤلاء أن الآية التي ذكرت فيها الزيتونة تشبه نور الله بنور "يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية". ألا يعرفون أن فاتحي إفريقية وجدوا في الموضع الذي ارتأوه لبناء جامعهم شجرة زيتون، لا حبة زيتون؟
هذه الملاحظة أردتها تمهيدا لموضوع أكثر خطورة عن هذه الإذاعة "الحدث" ؛ إذ يشاع اليوم أن مديرها الحالي سيكون الرئيس المقبل لحزب إسلامي سيرخص له عما قريب (لنسمه "حزب الزيتونة"). نعم لقد قرأتم جيدا: حزب اسلامي مرخص له في تونس. وإذا أخذنا بعين الإعتبار أن الإشاعة في تونس تكون في بعض الأحيان أصدق إنباء من "تونس إفريقيا للأنباء"، فعلينا أن نأخذ الخبر على محمل الجد وأن ننظر من قريب إلى ما يمكن أن يعنيه ذلك.
فما معنى أن يرخص لحزب إسلامي في تونس، بعد الترخيص لإذاعة دينية؟
معنى ذلك أن أسطورة التلازم بين النظام وحماية العلمانية قد انهارت، وأن التهمة التي دأب الإسلامويون على إلصاقها بالطبقة الحاكمة أصبحت اليوم عارية عن الصحة. فلا التجمع حزب علماني، ولا كوادر الدولة صقور علمانية حاقدة على الدين. وحتى إن كان ذلك صحيحا حتى وقت غير بعيد فاليوم هنالك اختراق ما قد حصل. ربما بسبب موجة التدين الأخيرة التي صارت تلقي بظلال كئيبة على الساحة السياسية التونسية. على العلمانيين اليوم، سواء كانوا يساريين أم غير يساريين أن يعوا تماما أن الحزب الحاكم، إذا قبل مبدأ المنافسة مع حزب قائم على أساس ديني، فإنه لم يعد في موقع المدافع عن العلمانية ومكتسباتها.
معنى ذلك أيضا أن قرارا سياسيا "من فوق" كاف لنسف مبدأ من مبادئ الدولة الحديثة، لا بل مبدأ من مبادئ التغيير مجسدا في الفصل الثامن من دستور الجمهورية "ولا يجوز لأي حزب أن يستند أساسا في مستوى مبادئه أو أهدافه أو نشاطه أو برامجه على دين أو لغة أو عنصر أو جنس أو جهة" (بالمناسبة هذا الفصل يناقض الفصل الأول الذي يقر بأن الإسلام دين الجمهورية. فهل الإسلام مستثنى في الفصل الثامن؟).
معنى ذلك أيضا أننا بصدد الإبتعاد شيئا فشيئا عن العلمانية، وأن المسؤولين يفتحون بابا ستتسلل منه أفكار غريبة وخطيرة من قبيل "الحاكمية" و"الشريعة" و"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" وما إلى ذلك من مواضيع الإسلامويين المفضلة. وإن كنت أشك كثيرا في كون "حزب الزيتونة" إسلامويا بالمعنى النهضوي، بل إني أراه أقرب إلى الحزب المحافظ (كـ"العدالة والتنمية" في تركيا أوالمغرب). وما يمكن أن يقدمه حزب ديني محافظ ينحصر في المستوى الإجتماعي، إذ ليس له ما يقدمه على المستوى السياسي. ولعل ذلك هو السر في إمكانية الترخيص لحزب الزيتونة، إذ لن يكون قوة سياسية مضادة للحزب الحاكم، بل حزب معاضدة ينافس المعارضة الشكلية الحالية في إصدار بلاغات التأييد والولاء والمناداة بترشح رئيس الدولة لفترة رئاسية قادمة.
ويهلل المثقفون في تونس الخضراء لمبادرة "الإنفتاح" هذه، متناسين أن أحزابا حقيقية لا تزال تنتظر تراخيص بالعمل السياسي. هؤلاء أنفسهم الذين صمتوا عن التعليق على إضراب الشابي والجريبي، يجدون في حزب الزيتونة مبادرة طيبة وخطوة نحو الديمقراطية (بالمناسبة أحمد نجيب الشابي ناله ما ناله لأنه تجرأ وصرح أنه لن يسمح لبن علي بالترشح في 2009). "المثقفون"، "المراقبون"، "المحللون" تماما كما المواطن العادي يتعامون عن حقيقة أن الحزب الإسلامي التونسي يسمى "النهضة" لا الزيتونة، وأن مبادرة إنفتاح حقيقية تجاه الإسلامويين تمر عبر لندنستان وعبر التفريط في مكتسبات الدولة الحديثة وفي مقدمتها مجلة الأحوال الشخصية.
سيقول قائل أن الهدف من العملية هوسحب البساط من تحت أرجل الإسلاميين. نعم، لكن بأي ثمن؟ ثم ما معنى أن يتم الإنفتاح في اتجاه الحركات المحافظة داخل الأوساط المحسوبة أصلا على الفريق الحاكم؟ هل سيوجه المتعاطفون مع النهضة تأييدهم إلى الأستاذ كمال عمران (مع احترامي الشديد لهذا الرجل الذي لا أعرف عنه الكثير) بدلا عن الغنوشي؟
سنرى في الأسابيع القادمة مدى صحة هذه الأخبار، وإن كنت مقتنعا أن هذه الإشاعة هي في الحقيقة بالون إختبار يتحسس بها بعض المسؤولين مدى تقبل التونسيين لتغيير من هذا النوع على الساحة السياسية.