vendredi 22 février 2008

الديمقراطية تبدأ بحق الإختلاف : ترشح الشابي للإنتخابات الرئاسية

رغم تحفظاتي على مواقف الرجل وحزبه ، ورغم عدم إلمامي بتفاصيل 18 أكتوبر التي جمعت بين الإسلاميين والديمقراطيين ومن ضمنهم أحمد نجيب الشابي، فإني، ومن حيث المبدأ، أساند مبادرته بالترشح للإنتخابات الرئاسية في 2009 وأنشر هنا ندائه إلى التونسيين والتونسيات نقلا عن موقع تحت الياسمينة في الليل لغسان بن خليفة

نداء أحمد نجيب الشابّي، المترشّح الى رئاسيات 2009، الى التونسيين والتونسيات

أحمد نجيب الشابّي

معًا نحيي الأمل

تواجه بلادنا استحقاقا انتخابيا رئاسيا وتشريعيا في خريف سنة 2009. و بدأت الحكومة حملتها الانتخابية منفردة منذ عام دون أن تبدي أية نية لإصلاح الإطار القانوني والمناخ السياسي الذين ستجري فيهما هذه الانتخابات والذين تنعدم فيهما أدنى شروط الاختيار الحر والمنافسة النزيهة.

ولا يمكن لكل من يهمه أمر تونس ومستقبلها أن يقف متفرجا إزاء ما يجري الإعداد له من تحويل لهذا الاستحقاق الانتخابي إلى مناسبة لإعادة إنتاج نظام الحكم الفردي والرئاسة مدى الحياة وهيمنة الحزب الواحد على أجهزة الدولة والمجالس المنتخبة ومؤسسات الإعلام والمجتمع المدني . وقد عانت تونس طويلا من مثل هذا النظام الذي انتفت فيه الحريات وفقد فيه القضاء استقلاله وانتشر في ظله الخوف وتفشت الرشوة والمحسوبية وولد شعورا عاما بالإحباط وبفقدان الأمل.

وحاولت الحكومة تبرير مثل هذا النظام بضرورات التنمية الاقتصادية وكثيرا ما تباهت بنسب النمو التي حققتها والحال أن الإصلاح ضرورة من ضرورات التنمية وأن نسب النمو التي تحققت لم تكن كافية وبنت اقتصادا هشا.

لم تكن هذه المعدلات كافية لأنها عجزت عن رفع التحديات التي تواجه البلاد: التشغيل والرفع من مستوى العيش.

فمعدلات البطالة ظلّت تراوح مكانها منذ أربع عقود واستقرت في مستوى 15 بالمائة من قوة العمل وباتت تستهدف اليوم فئات الشباب والمتعلمين منهم على وجه الخصوص، ومن بينهم خريجو الجامعات الذين يعززون صفوف العاطلين عن العمل بعشرات الآلاف كل سنة.

و نهش غلاء الأسعار من جهته القدرة الشرائية للأجراء والفئات الوسطى والضعيفة من المواطنين وعجزت البلاد عن تحقيق هدف اللحاق بالدرجة السفلى من البلدان المتقدمة من حيث مستوى العيش. بل وعمقت السياسة التنموية للسلطة من التفاوت واختلال التوازن بين الفئات والجهات.

وكانت هذه التنمية هشة لأنها راهنت لعقود طويلة على قطاعات تقليدية، معرّضة للتقلبات المناخية أو السياسية (السياحة) وعلى إستراتيجية تصديرية لمنتوجات ذات قيمة مضافة متدنية، تشغّل يدا عاملة رخيصة الأجر وقليلة المهارة مثل صناعة النسيج والملابس. فنتج عن هذا الاختيار اقتصاد ضعيف الاندماج وشديد التأثر بالطلب الخارجي.

وإلى ذلك، وبسبب ذلك، تواجه البلاد تحدي العولمة في ظروف غير ملائمة فتناقص نصيبها من الأسواق الخارجية وتشهد الصناعات المحلية منافسة غير متكافئة في السوق الداخلية وما ينجر عن ذلك من غلق للمؤسسات الوطنية وتسريح للعمال بعشرات الآلاف.

وترفض الحكومة أن يكون استحقاق 2009 مناسبة لتقييم مسيرة البلاد التنموية والوقوف على مواطن الوهن والإخفاق فيها ولاقتراح البرامج على الرأي العام قصد معالجتها وتمكينه من أن يختار بكل حرية ومسؤولية ما يراه الأصلح من بينها، وتحاول بدلا عن ذلك ممارسة الوصاية والإقصاء ومحاصرة الرأي المخالف وحجب المعلومة ومنع المجتمع المدني بهيئاته المهنية والأكاديمية والسياسية من وسائل التواصل قصد ثنيه عن كل اجتهاد وشل مشاركته في الحياة العامة في وقت تسعى فيه كل الدول إلى تفجير طاقات مجتمعاتها الإبداعية والمراهنة على ذكائها. إن رفع مجمل هذه التحديات يمر عبر النهوض بالاستثمار الذي يعرف ركودا منذ منتصف التسعينات، ودفعا للاستثمار الخاص على وجه التدقيق. ففي اقتصاد سوق مفتوحة على العالم كما هو اقتصاد جميع البلدان في عصرنا الحاضر تلعب المؤسسات الصغرى والمتوسطة دور القاطرة في خلق الخيرات وإحداث مواطن الشغل ويلعب المجتمع المدني الناهض الدور الفعال في إعادة توزيع الثروة على أساس من العدل والتضامن.

والنهوض بالقطاع الخاص لا يعني البتة تخلي الدولة عن القيام بوظائفها الأساسية. فبالإضافة إلى دورها التقليدي في حفظ الأمن وإقامة العدل وتأمين الدفاع الوطني تقع على عاتق الدولة مسؤولية تأمين المرافق العمومية من تعليم عمومي مجاني ومتطور وخدمات صحية عمومية رفيعة الجودة وتغطية اجتماعية للجميع ومد البنية التحتية وتهيئة التراب الوطني بما يضمن التنمية المستديمة والتوازن بين الجهات ويحمي البيئة.

و قدرة الدولة على القيام بهذه الوظائف المختلفة تتوقف على مدى حيوية الاقتصاد وقدرته على الإنتاج والمنافسة، فمنه تستمد الدولة وسائلها وتحقق توازن ماليتها وتقضي على الدين العمومي الذي يرتهن مستقبل الأجيال واستقلال قرارنا الوطني.

إن رفع التحديات المصيرية التي تواجه تونس من خلق للخيرات وإحداث مواطن الشغل وتوزيع الثروة على أساس من العدل والتضامن ومواجهة المنافسة الخارجية اعتمادا على صناعات وخدمات ذات قيمة مضافة عالية توطن التكنولوجيا وتشغل يد عاملة ذات مهارة تفرض إصلاحا شاملا للهياكل الاقتصادية والمالية ولنظام التعليم والتكوين والبحث العلمي وفي مقدمتها إصلاح النظام السياسي للبلاد.

إن إصلاح النظام السياسي بما يخلص المجتمع من الوصاية ويخضع السلطة لرقابة المجتمع لا يضمن كرامة المواطن وحسب، وهو هدف عظيم في حد ذاته، وإنما يكفل أيضا دوام الاستقرار والسلم الأهلية ويوفر المناخ الملائم للاستثمار الداخلي والخارجي على حد سواء ويسهم في فتح البلاد على محيطها الإقليمي كشرط ضروري لانفتاحها على العالم الخارجي واندماجها في الاقتصاد العالمي.

ويمثل استحقاق 2009 فرصة لنفض غبار السلبية عن أنفسنا وإنجاز مهمة إصلاح النظام السياسي وتحرير طاقات المجتمع من مكبلاتها.

لذلك واستجابة لنداء الواجب قررت التقدم بترشحي للانتخابات الرئاسية لسنة 2009 على قاعدة برنامج الإصلاحات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية التي يستوجبها النهوض ببلادنا والتي سأعلن عن تفصيلها في وقت لاحق، معتمدا في ذلك على الله وعلى تأييد ومساندة مناضلي ومناضلات الحركة الديمقراطية والتقدمية التونسية وفي مقدمتها مناضلو الحزب الديمقراطي التقدمي والشخصيات الوطنية الممضية على "النداء من أجل بديل ديمقراطي"، هدفي من ذلك بذل أقصى الجهد لإحداث التغيير الذي ينشده شعبنا، وفي الحد الأدنى المساهمة في إنضاج ظروفه وتعبيد السبيل إليه.

وإن ما يحظى به تمشينا من صدقية و احترام لدى الرأي العام الوطني الواسع وما نحظى به من تعاطف في أوساط النخب العربية ومن تقدير من قبل المراقبين الأجانب وأحباء الحرية والديمقراطية في العالم يجعل الموقف من ترشحنا قبولا أو رفضا معيارا من معايير الحكم على صدقية الانتخابات القادمة أو زيفها. فإما أن ترفع الحواجز القانونية الظالمة التي تعودت الحكومة وضعها على طريق ترشحنا وإلا فإنها تقر منذ الآن وأمام العالم بأن الشعب التونسي محروم من حرية الاختيار وأنه معرض لمحاولة مصادرة حقه في اختيار من ينوب عنه في الحكم بكل حرية وشفافية.

إن النظام القانوني الحالي الذي يفرض على المرشح إلى الانتخابات الرئاسية أن يحصل على تزكية ثلاثين عضوا من المجالس التي يسيطر عليها الحزب الحاكم لا يفتح مجال المشاركة في هذه الانتخابات عمليا إلا لمرشح هذا الحزب وحده. لذلك تلجأ السلطة كلما اقترب الموعد الانتخابي إلى تعديل الدستور والسماح للأحزاب الممثلة بإرادة منها في البرلمان بتقديم مرشح عنها مغلقة بذلك الباب في وجه الشخصيات الوطنية و أحزاب المعارضة المستقلة.

وفي المناخ السياسي الحالي تقصر الحكومة المنافسة الانتخابية على حملة باهتة تقرر مدتها ومن يحق له المشاركة فيها وتحدد شروطها من جهة استعمال وسائل الإعلام وتوقيتها وتعيين قاعات الاجتماع وعدد المعلقات وأماكنها فيما تحتفظ لنفسها بحق تسخير وسائل الإعلام وأجهزة الإدارة والمال العام للأغراض الدعائية لحزبها ومرشحيه بما يجرد الحملة الانتخابية من أدنى شروط المنافسة المتكافئة وينفي عنها مقومات الاستشارة الشعبية الحرة.

إننا نرفض هذا الديكور الانتخابي وسوف نعمل من جهتنا على فرض التكافؤ في الفرص بين جميع الفرقاء. لن نقبل بأن يحتكر الحكم حق تعليق المعلقات العملاقة واستعمال الدور العمومية ووسائل الإعلام الجماهيرية طيلة المدة التي لا تزال تفصلنا عن الموعد الانتخابي ليختار في نهايتها وبصفة تعسفية منافسيه ويفرض عليهم التحرك في مربع يحدده لهم في إطار حملة انتخابية لا تزيد مدتها عن خمسة عشر يوما بالعد والحصر.

إننا سنمارس حقنا في تعليق المعلقات وفي استعمال وسائل الاتصال السمعية والبصرية المحلية والأجنبية وعن طريق الانترنت والأقراص المضغوطة والمناشير والاجتماع بالمواطنين في أحيائهم وأماكن عملهم لنعرفهم ببرامجنا ومقترحاتنا ونشحذ عزائمهم وندعوهم ليفرضوا حقهم في الاختيار الحر.

وإني إذ أتوجه بجزيل الشكر وبعبارات العرفان التقدير إلى مناضلي ومناضلات الحزب الديمقراطي وإلى الشخصيات الوطنية التي تبنت ترشحي في إطار "النداء من أجل بديل ديمقراطي" الذي أصدرته اليوم، أتعهد لهم جميعا بالعمل بكل جد وإخلاص وفي تنسيق وتشاور دائمين معهم على تحقيق هذه الأهداف والقيام بحملة مشرفة في نطاق القانون وأخلاق التنافس النزيه حتى نوفر للشعب التونسي حق الاختيار الحر لمن ينوب عنه في الحكم فتحرر طاقاته الإبداعية ويواجه التحديات المحيطة به بهمة واقتدار.

تونس في 13 فيفري 2008



mardi 15 janvier 2008

لنرفع شعار: ما أحلى بلادنا من غير صحافة الرداءة

منذ أربعين سنة وهم ينبطحون أمام الحزب الحاكم ويتملقون ويبيعون الوطن والبلاد والعباد. منذ أربعين سنة وديدنهم الوحيد الإساءة إلى تونس! منذ أربعين سنة واحتقارهم لإرادة الجماهير واحتقارهم للديمقراطية لم يتغير!! من هؤلاء؟ إنهم بعض من صحفيينا الذين باعوا ضمائرهم وأصبحت الصحافة تخجل من أسمائهم.

من أبجديات العمل الصحفي في كل الأقطار والأمصار عبر العصور والأزمان أنه يخضع لأخلاقيات وأطر وحدود وعلامات حمراء. غير أن العلامات الحمراء الوحيدة التي يراها هؤلاء هي تلك التي ترمز إلى الحزب الحاكم. الحزب هو المنطقة الحمراء التي لا يجوز لمسها أو الإقتراب منها، أما ماعدا ذلك، فكل شيء مسموح به حتى وإن كان ذلك قذفا وتشهيرا وسبابا علنيا.

هؤلاء يعتبرون تونس حبسا لإعلامهم الرديء ورهينة لـ"تحاليلهم" و"آرائهم" وأن الرأي العام يتشكل بفضل ما يقولونه. يحسبون أن التونسي سيدي تاتا وأنه يجدّ عليه كل شي. يحسبون أنهم بسكوتهم يستغفلوننا في حين أنه يكفي الإطلاع على مصادر خبر أخرى حتى نعرف حقيقة أكاذيبهم. يحسبون أن تواطؤهم مع الفساد سيتواصل إلى مالانهاية. هؤلاء مقتنعون إلى حد النخاع بما يلي:

ـ إن التوانسة بعددهم وتعدادهم غير قادرين على تمييز الحق فيما يقوله الصحافيون. فاكذب كما تشاء وقل ما شئت طالما لم تلمس المناطق الحمراء.

ـ إن التوانسة لا يستحقون الحرية والديمقراطية ويجب أن يبقوا على الحال الذي هم فيه. إنك تستطيع بمقال تسب فيه وجوه المعارضة أن تثبت أن حرية التعبير حقيقة وواقع في حين أن الحرية التي تمارسها هي حرية الثلب وحرية المزايدة على خطاب السلطة حتى ثتبت أنك ملكي أكثر من الملك.

ـ إن أبناء الشعب الكريم من عملة وموظفين وفلاحين يستحقون أن يصبحوا دكاترة ومحامين وأطباء بشرط ألا يحركوا المياه الراكدة وبشرط أن يؤدوا فروض الطاعة والولاء لولي الأمر. إن من حقهم أن يصبحو مثقفين لكن بشرط أن يبقوا جاهلين سياسيا يقتاتون على صحافة الرخص والخسة وقلة الضمير.

لا أقول هذا من باب المغلاة أو المبالغة بل هي قناعتي استنادا على ما أقرأه منذ سنوات طويلة في صحافة تستخف بعقول القراء وتعتبر أنهم غير قادرين على رؤية الهوة العميقة بين ترهاتهم وبين ما يعايشه وما يراه المواطن كل يوم.

إلى متى سوف يواصلون الكذب؟ حتى متى يخادعون أنفسهم ويوهمون الناس أن كوادر السلطة في تونس ينحدرون من سلالة سوبرمان وأنه لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم؟ حتى متى سيضحكون على ذقوننا ويسمون خرقهم البالية صحافة؟ إلى متى ستنطلي علينا شعاراتهم الجوفاء من قبيل "تونس بخير"؟ حتى متى سنصدق أننا في تونس، على العكس من كل بلدان العالم، ليست لنا مشاكل؟ يرددون أن لنا ديمقراطية في تونس في حين أن السلطة ذاتها تتحدث عن تحول تدريجي إلى الديمقراطية لم يكتمل بعد. ومتى كانت هناك ديمقراطية في بلد لم يتعافى بعد من حقبة الحزب الواحد والوحيد؟ متى كانت هناك ديمقراطية في بلد تستقيل فيه السلطة الرابعة وتتخلى فيه عن صلاحياتها ومبادئها؟ الديمقراطية هي أن يقول الشابي أنه لن يسمح لبن علي بالترشح في 2009 وأن لا تتم مضايقته من أجل ذلك. العدالة هي أن يحاكم مجرمو سليمان بشفافية وتحت أنظار الرأي العام لا في ظل التعتيم والبلاغات الحكومية المقتضبة. الحرية هي أن يقول الجريدي وغيره "لا" للحكومة وللحزب إن كان ذلك ما يؤمنون به عن قناعة. المسؤولية هي أن يفتح محتكروا الإعلام منابرهم للشابي وغيره من "الخونة" كي يفسروا مواقفهم ويطرحوا آرائهم. التعددية هي أن أجد آراء مختلفة، بل ومتناقضة، في كل صحيفة أفتحها، لا أن أقرأ الشيء نفسه في كل الصحف.

السيد "الجريدي" ـ الذي يخجل اسمه منه ـ ينصب نفسه متحدثا باسم التوانسة! لا تتكلم باسمي من فضلك. تحدث باسمك وحدك وإن كانت لك حسابات مع فلان أو فلتان فصفها في مقهى أو حانة لا على أعمدة صحيفة. أبعد قلمك القذر عن صحافتنا التي نادرا ما نشرت ذلك الكم الهائل من الألفاظ القبيحة في صفحة واحدة: الخونة، الساقطون، الجبناء، السقوط، الدناءة، المغفل، عاهرات الماخور، البغاء السري، الشذوذ، الدناءة، الإجرام، أهل الدعارة، الدعارة، احتراف الدعارة، ماخور، امتصاص دماء الأبرياء، شعاركم الدمار، تهكما على أمة الإسلام والمسلمين، منظري الإرهاب والفساد، الجبناء، الخونة الساقطون، عليكم لعنة الله ولعنة الدين ولعنة الجماهير.

يحاول أن يستثير مشاعر الوطنية لدى القراء. نسي أن أبناء جلدته يضحون بالغالي والنفيس من أجل فيزا إلى أرض العكري، نسي أنه هو وأمثاله يرددون علينا أغنية تونس التي يطيب فيها العيش في حين يغادر الآلاف كل سنة يبحثون عن عيش كريم عند أهل الكفر ومستعمري الأمس. لم تتحرك الوطنية في صدر هذا الصحفي الفذ عندما رأى صفوف التونسيين متجمهرة أمام السفارات الأجنبية تستجدي تأشيرة دخول. لم يحز في نفسه أن الشباب لم يعد يرى المستقبل هنا بل هناك وراء البحار، لا تستثيره دموع الأمهات ولا حسرة الآباء. لا يهمه الشباب الضائع بين مكاتب التشغيل حاملا دبلوماته في يده. لا يكترث لمن غادر ولم يعد لأنه وجد آفاقا أرحب وراء البحار.

ما أحلى بلادنا من غير صحافتنا الصفراء القذرة. ما أحلى بلادنا من غير نفاق وترهدين. ما أحلى بلادنا من غيركم يا صحفيي العار يا قفافة. أيها الجبناء، أكرر: أيها الجبناء من الصحفيين، إنكم دمى من ورق. سيذكر التاريخ أسيادكم إما خيرا أو شرا، أما أنتم فإلى مزبلة التاريخ سائرون.

سيأتي يوم يلفظكم فيه الجسد التونسي كما تلفظ النواة.

samedi 17 novembre 2007

بعد إذاعة الزيتونة، حزب الزيتونة؟


جعلت إذاعة الزيتونة من حبة الزيتون شعارا لها بدلا عن شجرة الزيتون. وإن كان من البديهي بالنسبة لي وللكثيرين أن الرمز الديني "الزيتونة" يحيل على الشجرة لا على الحبة، فالأمر لا يبدو كذلك بالنسبة للمسؤولين عن الإذاعة المذكورة. ولا أدري إن كان اختيار الرمز إعتباطا أم كان نتيجة بحث. ألا يعرف هؤلاء أن الآية التي ذكرت فيها الزيتونة تشبه نور الله بنور "يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية". ألا يعرفون أن فاتحي إفريقية وجدوا في الموضع الذي ارتأوه لبناء جامعهم شجرة زيتون، لا حبة زيتون؟

هذه الملاحظة أردتها تمهيدا لموضوع أكثر خطورة عن هذه الإذاعة "الحدث" ؛ إذ يشاع اليوم أن مديرها الحالي سيكون الرئيس المقبل لحزب إسلامي سيرخص له عما قريب (لنسمه "حزب الزيتونة"). نعم لقد قرأتم جيدا: حزب اسلامي مرخص له في تونس. وإذا أخذنا بعين الإعتبار أن الإشاعة في تونس تكون في بعض الأحيان أصدق إنباء من "تونس إفريقيا للأنباء"، فعلينا أن نأخذ الخبر على محمل الجد وأن ننظر من قريب إلى ما يمكن أن يعنيه ذلك.

فما معنى أن يرخص لحزب إسلامي في تونس، بعد الترخيص لإذاعة دينية؟

معنى ذلك أن أسطورة التلازم بين النظام وحماية العلمانية قد انهارت، وأن التهمة التي دأب الإسلامويون على إلصاقها بالطبقة الحاكمة أصبحت اليوم عارية عن الصحة. فلا التجمع حزب علماني، ولا كوادر الدولة صقور علمانية حاقدة على الدين. وحتى إن كان ذلك صحيحا حتى وقت غير بعيد فاليوم هنالك اختراق ما قد حصل. ربما بسبب موجة التدين الأخيرة التي صارت تلقي بظلال كئيبة على الساحة السياسية التونسية. على العلمانيين اليوم، سواء كانوا يساريين أم غير يساريين أن يعوا تماما أن الحزب الحاكم، إذا قبل مبدأ المنافسة مع حزب قائم على أساس ديني، فإنه لم يعد في موقع المدافع عن العلمانية ومكتسباتها.

معنى ذلك أيضا أن قرارا سياسيا "من فوق" كاف لنسف مبدأ من مبادئ الدولة الحديثة، لا بل مبدأ من مبادئ التغيير مجسدا في الفصل الثامن من دستور الجمهورية "ولا يجوز لأي حزب أن يستند أساسا في مستوى مبادئه أو أهدافه أو نشاطه أو برامجه على دين أو لغة أو عنصر أو جنس أو جهة" (بالمناسبة هذا الفصل يناقض الفصل الأول الذي يقر بأن الإسلام دين الجمهورية. فهل الإسلام مستثنى في الفصل الثامن؟).

معنى ذلك أيضا أننا بصدد الإبتعاد شيئا فشيئا عن العلمانية، وأن المسؤولين يفتحون بابا ستتسلل منه أفكار غريبة وخطيرة من قبيل "الحاكمية" و"الشريعة" و"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" وما إلى ذلك من مواضيع الإسلامويين المفضلة. وإن كنت أشك كثيرا في كون "حزب الزيتونة" إسلامويا بالمعنى النهضوي، بل إني أراه أقرب إلى الحزب المحافظ (كـ"العدالة والتنمية" في تركيا أوالمغرب). وما يمكن أن يقدمه حزب ديني محافظ ينحصر في المستوى الإجتماعي، إذ ليس له ما يقدمه على المستوى السياسي. ولعل ذلك هو السر في إمكانية الترخيص لحزب الزيتونة، إذ لن يكون قوة سياسية مضادة للحزب الحاكم، بل حزب معاضدة ينافس المعارضة الشكلية الحالية في إصدار بلاغات التأييد والولاء والمناداة بترشح رئيس الدولة لفترة رئاسية قادمة.

ويهلل المثقفون في تونس الخضراء لمبادرة "الإنفتاح" هذه، متناسين أن أحزابا حقيقية لا تزال تنتظر تراخيص بالعمل السياسي. هؤلاء أنفسهم الذين صمتوا عن التعليق على إضراب الشابي والجريبي، يجدون في حزب الزيتونة مبادرة طيبة وخطوة نحو الديمقراطية (بالمناسبة أحمد نجيب الشابي ناله ما ناله لأنه تجرأ وصرح أنه لن يسمح لبن علي بالترشح في 2009). "المثقفون"، "المراقبون"، "المحللون" تماما كما المواطن العادي يتعامون عن حقيقة أن الحزب الإسلامي التونسي يسمى "النهضة" لا الزيتونة، وأن مبادرة إنفتاح حقيقية تجاه الإسلامويين تمر عبر لندنستان وعبر التفريط في مكتسبات الدولة الحديثة وفي مقدمتها مجلة الأحوال الشخصية.

سيقول قائل أن الهدف من العملية هوسحب البساط من تحت أرجل الإسلاميين. نعم، لكن بأي ثمن؟ ثم ما معنى أن يتم الإنفتاح في اتجاه الحركات المحافظة داخل الأوساط المحسوبة أصلا على الفريق الحاكم؟ هل سيوجه المتعاطفون مع النهضة تأييدهم إلى الأستاذ كمال عمران (مع احترامي الشديد لهذا الرجل الذي لا أعرف عنه الكثير) بدلا عن الغنوشي؟

سنرى في الأسابيع القادمة مدى صحة هذه الأخبار، وإن كنت مقتنعا أن هذه الإشاعة هي في الحقيقة بالون إختبار يتحسس بها بعض المسؤولين مدى تقبل التونسيين لتغيير من هذا النوع على الساحة السياسية.

dimanche 11 novembre 2007

عشرون سنة من الخبز، أما الحرية فإننا في انتظارها

في عام 1987 كنت صبيا لم يدخل المدرسة الإبتدائية بعد. ذات صباح خريفي أيقظني أبي باكرا وقال لي إن بورقيبة لم يعد رئيسا. فقلت مندهشا:"أويعقل هذا؟". ثم أفقت من دهشتي على وقع هتافات الجماهير التي تهلل لرئيس جديد، رئيس لا يعرف أحد عنه الكثير.

كانت عمة أبي الطاعنة في السن تقول لي إن بورقيبة هو من يوفر لنا الخبز. وذلك بعد إذن الله تعالى طبعا. كانت مكانة بورقيبة في قلبها بعد الله مباشرة كما في قلوب ملايين التونسيين في ذلك الحين. وتسائلت بسذاجة: "هل يقدر الرئيس الجديد أن يطعمنا خبزا هو أيضا؟"

وانبلج فجر جديد. لم يأت الرئيس الجديد كي يطعمنا خبزا فقط، بل جاء كي يطعمنا خبزا وحرية، أو هكذا خيل لنا، أو هكذا قال لنا، أو هكذا فعل حقا. قانون الأحزاب، قانون الصحافة، إنتخابات، تعددية، ديمقراطية، ميثاق وطني... كانت كلمات تتردد في الصحافة وفي التلفزيون وكنت كل مرة أمطر أبي بالأسئلة. كان العهد الجديد عهد الأحلام الوردية. وكان وطننا واحة، والعالم العربي صحراء قاحلة.

دخلت المدرسة مع بدايات العهد الجديد. كنت أنتمي إلى آخر دفعة من "النظام القديم"، إذ تبدلت المقررات في العام الذي تلا دخولي، كما تبدلت أيضا أشياء كثيرة. ومع ذلك كنت أجد من يقول لي معزيا أن "النظام القديم خير" وكنا، نحن أبناء الدفعة الأخيرة قبل الأساسي، نشعر بالفخر لإنتمائنا إلى عالم يتلاشى رويدا رويدا.

صرت أقرأ الصحف بانتظام حتى أتدرب على القراءة السريعة. ثم أصبحت القراءة متعة والمتعة عادة. أذكر أن الصحافة كانت تنشر أحاديث لزعماء المعارضة الإسلامية، وأذكر تماما كيف أن أحدهم قال في إحدى الصحف أنه لن يمانع إذا قررت إبنته اتباع موضة الميني جيب. أذكر أن التلفزة لم تكن تستبله المواطنين بقدر ما تستبهلهم اليوم. رأيت مرة معارضين في التلفزة ينشدون حماة الحمى. سألت أبي مستنكرا: "كيف يتجرؤون على ذلك؟" فأجابني بهدوء: "إنهم توانسة!" صمتت وذهلتني المفاجأة. إنهم تونسيون! أصبح الوطن في داخلي رحبا يتسع للجميع، صار حقلا يعج بعشرة ملايين زهرة، يمكن لكل زهرة فيه أن تكون بلون مختلف عن الأخريات وأن تنشد "حماة الحمى" دونما خوف أو وجل. وأدركت دونما جهد كبير معنى التعددية رغم أن مدينتي كانت تسبح بحمد لون واحد.

تتالت الإنتخابات... الأولى فالثانية...فالثالثة. الأرقام مفزعة، تذكر بأبشع الديكتاتوريات، لكن ذلك لا يهم، فتونس شيء آخر، تونس استثناء، تونس ديمقراطية رغم اجماعها على رجل واحد. تونس تشعل الغيرة في قلوب أعدائها لذلك هم لا يقولون فيها كلمة خير.

كبرت وكبرت في خيالي الأحلام. جربت الحزب وانخرطت في بضعة منظمات شبابية. كان زملائي من النشطين شبابا مراهقين في مثل عمري. لم نكن نفقه شيئا في السياسة. كنا نبحث عن الترفيه: رحلات، مصائف، موسيقى وحفلات شبابية. كنا نتثائب في الإجتماعات السياسية ونلتفت يمنة ويسرة بحثا عن فتاة تجمعية جميلة الأهداب. كنا نبحث عن الحب وعن المغامرة وكانت صور صانع التغيير جميلة لماعة تغري بمستقبل مشرق. ثم مللت ذلك كله. ذات يوم قال لي أحد "المسؤولين" أنني "ثوري" لأنني قمت بملاحظة في غير محلها عن الإستفراد بالحكم. ضجرت من الفكرة الواحدة والرجل الواحد وصببت اهتمامي كله على الدراسة. قال لي أبي ذات يوم وقد شعر أن أفكاري لم تعد بألوان الحزب الأوحد: "رد بالك مالسياسة عيش ولدي". وآليت على نفسي أن آخذ حذري من السياسة.

غادرت الوطن تاركا أهل الهم غارقين في همهم. نحن جيل الهروب والتفصي من المسؤولية. في مدينتي الأروبية الجديدة صرت خلقا آخر. أصبح الوطن ذكرى بعيدة. أصبح الوطن هو الطفولة والغربة هي واقعي وحقيقتي الوحيدة. واستيقظت ذات يوم فقيل لي إنهم يحتفلون بعيد ميلاد الوطن.

2821 سنة بعد عليسة*، وهم يصرون على أن تونس بعثت إلى الوجود منذ عشرين سنة فقط. شاهدت تلفزتنا الوطنية السابعة (والوحيدة) فأصابني الغثياني. أهذا نحن؟ رأيت صورا بالأبيض والأسود تحت عنوان "قبل التغيير" تتحول إلى صور بألوان زاهية مرفقة بموسيقى مرحة. تقول العبارة المكتوبة أسفل الشاشة "بعد التغيير". نظرت إلى وجهي في المرآة، فلربما كتب أحدهم على جبيني "مغفل" دون أن أدري.

رجعت أمام الجهاز وفي حلقي غصة. إنهم يبثون وثائقيا عن "إنجازات تونس في عهد التغيير". لقد تجرأ الصحفي الفذ الذي قام بتركيب فلم البروباغندا هذا على وصف رئيس الدولة بـ"القائد الرمز". أريد فقط أن أعرف شعور التونسيين وهم يرون رئيسهم ينعت بلقب كان حكرا على أسوأ حكام العرب. أريد أن أعرف رأي رئيس الدولة نفسه في هذه البروباغندا الرديئة التي تجعل منه يوصف بنفس أوصاف سيئي الذكر صدام والقذافي والأسد. وتسائلت إن كنا فعلا، كما نتبجح دوما بحال أفضل من "أشقائنا" العرب.

لقد كرهت في صغري نشرات الأنباء على قناتنا السابعة (والوحيدة). لا يتحدثون إلا عن نشاط رئيس الدولة وعن مباريات كرة القدم. رئيس الدولة يحضر نهائي كأس كرة القدم ويهنئ رئيس نيجيريا بعيدها الوطني. رئيس الدولة قال... رئيس الدولة فعل... رئيس الدولة يأذن... رئيس الدولة يقوم بزيارة فجئية...رئيس الدولة يشرف...رئيس الدولة... لقد أصبحت نشرات الأنباء تلك خزعبلات أطفال بجانب ماكينة الكذب التي نراها اليوم. ورغم أن الجميع يعرف أن أب الأمة التونسية الحديثة يرقد في المنستير، فإنهم رغم ذلك لا يستحون من الإفتراء ومن الدجل. هل نستحق فعلا أن نعامل كجهال وكأغبياء؟.

مؤخرا تحدثت مع والدي في السياسة. أحسست أن ممارسات الحزب صارت تؤرقه هو أيضا رغم أن قناعاته السياسية لم تتزحزح. في معرض كلامه قال لي:"الرئيس بورقيبة...عفوا...أقصد بن علي...." كان ذلك كافيا حتى أفهم حنينه إلى الماضي البورقيبي. حنين يتقاسمه الكثير من التونسيين، ومنهم من لم يعرف أصلا بورقيبة في سنوات حكمه ومجده. وأخذتني رعشة؛ أيمكن أن نحنّ يوما إلى عهد بن علي كما نشتاق اليوم إلى المجاهد الأكبر؟

لسنا نعيش إلا الزمن الذي رضينا بالعيش فيه. لسنا نحمل إلا القيم التي أردناها لأنفسنا ولا نقبل إلا بالظلم الذي نسكت عنه. أما الوطن فإنه فيعرف قطعا أن له من العمر أكثر من 2821 سنة.

ــــــــ


* : تقول الأسطورة أن عليسة أسست قرطاج في 814 ق.م

vendredi 2 novembre 2007

قراءة في مقال حول العلمانية صادر بمجلة الآداب

ملاحظة منهجية :

اهتمامي بمقال السيد طارق الكحلاوي في مجلة الآداب "السرديات الشمولية لعلاقة الدين بالدولة و تاريخانيّتها" ينبع من فضولي المعرفي ومن اهتمامي الخاص بمسألة العلمانية في السياق العربي الإسلامي. وإن كان يبدو لكاتب المقال أو لأي مراقب محايد أن ملاحظاتي منحازة أو أنها تفتقر إلى الدقة أوإلى المعرفة اللازمة فإن ذلك الإنطباع له قطعا نصيب كبير من الصحة. فأنا متطفل على التاريخ وعلى السياسة والإقتصاد والثقافة واختصاصي المهني بعيد كل البعد عن كل هذه المجالات. لكني أعتبر نفسي مواطنا يعيش عصره وأعتبر أنه من حقي مناقشة كل ما يخص الشأن العام، وإن كان ذلك يعني تدخلا في مجالات غير مجالات تخصصي.

****

تحت العنوان الفرعي "السرديات الشمولية" يبين الكاتب وجود تيارين الأول يؤمن بحقيقة الممارسة العلمانية في التاريخ الإسلامي (بعبارة أدق حقيقة الفصل الفعلي بين الدين والدولة)، والثاني تيار يؤمن بخصوصية ما للنسق العربي الإسلامي تجعل منه استثناء. ففي رؤية هذا التيار لم يكن المسلمون ليفصلوا يوما بين الدين والدولة ولا يمكنهم مستقبلا فعل ذلك لكون الإطار النظري الإسلامي مختلفا عن نظيره المسيحي. الملفت أن هذه النظرة تجمع منظري الإسلام السياسي مع بعض المستشرقين القائلين باستثنائية الإسلام والمسلمين. وما يعيبه الكاتب على أصحاب النظرتين هو كونهم يتخذون مواقف نظرية ذات رؤية "شمولية" لا تمارس تحليلا موضوعيا للوقائع التاريخية بل تسقط تصوراتها على تاريخ تتناوله بكثير من البسيط والتسرع.

ولذلك فإن الكاتب يأخذ على عاتقه مهمة سبر أغوار"تاريخانية" العلمانية في السياق الغربي في مرحلة أولى ثم "تاريخانية" علاقة الدين بالدولة في السياق الإسلامي في مرحلة ثانية، وهو بذلك يحاول أن يبتعد عن ميادين السرد الشمولي النظري لمسألة العلمانية ووضعها في إطار تاريخي (أو "تاريخاني") أقرب للدراسة الأكاديمية منه للخطاب الفكري أو السياسي.

حول تاريخانية العلمانية، يمكن تلخيص الأفكار الواردة في المقال بلغة أقل أكاديمية وحسب فهمي الخاص لها :

ـ الإطار النظري الموروث عن ماكس فيبير تجاوزه الزمن وتعرض للكثير من النقد
ـ عدم صفاء مفهوم فصل الدين عن الدولة : فالتاريخ الأسطوري للعلمانية عرضة للنقد في هذا العصر (إعادة تأويل التجربة الغربية بمنظور تاريخي مثلما هو الحال في بريطانيا فرنسا والولايات المتحدة والنظر إلى حقيقة الممارسة عوضا عن الإكتفاء بالمبادئ التشريعية)
ـ إعادة تأويل المثال التركي في إتجاه التسليم بتداخل الشأن العام والدين على الأقل منذ 1950

أما تاريخانية علاقة الدين بالدولة في الإطار الإسلامي فيمكن تلخيص أفكار المقال فيما يلي :

ـ التباس لدى الباحثين بين تاريخ التنظير للدولة وتاريخ الممارسة السياسية
ـ حاجة المؤسسة السياسية إلى حد أدنى من الشرعية الدينية ولكن دون أن يعني ذلك اختصاص الحاكم بالفقه، بل يتمثل ذلك في تولية قضاة من داخل المذهب الرسمي وفي أخذ النصيحة من الفقهاء دون الإلتزام بالتطبيق
ـ فصل في الممارسة بين الأمير المطالب بصفات سياسية بالدرجة الأولى وبين ممثلي الإسلام الرسمي من قضاة وفقهاء يجدون أنفسهم، في آخر الأمر، مطالَبين (بل ومنظرين) لواجب طاعة الحاكم

ويخلص الكاتب في نهاية المقال إلى أن القراءة التاريخانية هي المطلوبة اليوم للتقدم بالنقاش الفكري حول موضوع العلمانية. فتبني أنظمة فكرية شمولية هي "عناصر معطلة" والحلول الجاهزة والإسقاطية (سواء تمثلت في استنساخ تجربة مسيحية أو في تطبيق دولة دينية إسلامية وهما حلان لا يستندان إلى واقع تاريخي بقدر استنادهما إلى تصورات فانتازماتية) لن تساهم في إنجاح النقاش.

****
من جملة المؤاخذات التي يمكن أن نسوقها حول هذا المقال هو غياب أية محاولة تأليفية بين شقي المقال. فبتبسيط شديد يمكن القول أنه في الجزء الأول يخبرنا الكاتب أن العلمانية في الغرب ليست علمانية بالنقاء الذي نتصوره، ثم يخبرنا في الجزء الثاني أن تداخل الدين والدولة في الإسلام ليس مسلما به، بل إن هناك فصلا ما في تاريخ الممارسة السياسية الإسلامية... ولسائل أن يسأل :

SO WHAT ??

كان بودي لو أن الكاتب ذهب أبعد قليلا من تحليله الأكاديمي وأخبرنا بما يمكننا استنتاجه مما يذكره لنا من حقائق تاريخية. قد يكون ذلك تجاوزا لدوره كباحث في التاريخ، لكنني كمواطن أنتظر أن أقرأ رأي السيد الكحلاوي بعد أن قرأت سرده الأكاديمي الذي تكمن أهميته في كونه تمهيدا وإعادة تأطير لنقاش لم يقترب منه الكاتب بعد.

وللتوضيح أكثر فإن الأسئلة التي كنت أنتظر حولها إجابات على الأقل في خلاصة المقال هي


ـ ما هي انعكاسات نقد التاريخ الأسطوري للعلمانية في الغرب على امكانات تحقيقها في السياق العربي الإسلامي ؟

ـ هل نحن بصدد اعادة تعريف للعلمانية عند دراستنا لتجاربها المختلفة في الغرب ؟ وهل يمكن الإستخلاص بعد التعريف الجديد للعلمانية أنها مطبقة "بشكل ما" في الدول الإسلامية اليوم ؟ أم أن العلمانية بتعريفها الجديد خاصية غربية محضة ناتجة عن سياق تاريخي محدد وبالتالي مستحيلة التحقيق في إطار إسلامي ؟

ـ هل أن الإهتمام بالممارسة السياسية لعلاقة الدين بالدولة في التاريخ الإسلامي مقدمة للقول بإمكانية العلمانية على الأقل نظريا ؟ وأية علمانية نقصد (أي تعريف للعلمانية نعتمد إذا راجعنا تعريفاتنا تبعا للسؤال السابق)؟

كقارئ لمقال السيد الكحلاوي لم أجد إجابات لمثل هذه الأسئلة، ومن المؤكد أن الإجابة عنها لم تكن محور اهتمام الكاتب المهتم أكثر بإعادة صياغة النقاش وجعله يتمحور حول قراءة تاريخية أكثر دقة لمسألة العلمانية.

إضافة إلى ذلك فإن تساؤلات أخرى قد برزت في ذهني وأنا أقرأ هذا المقال. إذ رغم حرص الكاتب الشديد على الدقة، فإنه يسقط هو نفسه في العموميات من قبيل اعتبار المدافعين عن العلمانية من اليسار بالضرورة أو يكاد. فقارئ المقال يخيل له أن لا مدافع عن العلمانية سوى "الوافدين [...] من صفوف يسارية لم يبق لها من الخيارات سوى التشبث برؤى فوقية حتى في قراء اتها التراثية الطارئة والمستعجلة." وإن لم يكن موضوع المقال حول علاقة اليسار بالعلمانية فإن هذا الربط بين الدفاع عن العلمانية وبين اليسار يبدو ثابتا حيث يقول الكاتب أن "النخب اليسارية السابقة أضحت قضيتها المركزية بشكل فجائي "علمنة الدولة" بعد عشريات من الكفاح من أجل ديكتاتورية البروليتاريا".

من المفاجئ أن يختصر الكاتب كفاح اليسار في كفاحه من أجل دكتاتورية البروليتاريا في حين أن الأطياف اليسارية متعددة ومختلفة ويجمعها النضال من أجل العدالة الإجتماعية قبل أن تجمعها دكتاتورية البروليتاريا ووضع اليسار في سلة واحدة بهذه الطريقة هو مجحف بحق اليسار ومناضليه رغم أني لا أعتبر نفسي من ضمنهم.

على مستوى ثان يبدو الربط بين العلمانية واليسار مجحفا أيضا وذلك نظريا على الأقل. فمن خلال موقعي كمواطن بعيد عن المعارك الأكاديمية بعده عن ساحات السياسة ومعتركاتها أكاد أتنبأ بمن يتكلم باسم العلمانية في العالم العربي : الأقليات الدينية، الأقليات الطائفية، الأقليات العرقية، المثلجنسيون، الملاحدة، اللاأدريون، الحركات النسوية، كل من لا يتبع حرفيا تعاليم الدين... باختصار كل من له مصلحة في إبعاد الدين عن الحياة العامة ...

فالعلمانية عند هؤلاء وغيرهم هي مطية النجاة من الفكر السياسي المتأسلم الذي يقدم حلا شموليا لشكل الدولة تضحى معه بعض الإمتيازات والحريات مهددة. بعبارة أخرى إذا كانت بعض الأوساط الإجتماعية المحافظة تتسامح مع أطروحات أصولية متشددة فإن ردة فعل الأقليات الإجتماعية والفكرية ستكون حتما في اتجاه الدفاع عن العلمانية وذلك بقطع النظر عن الإيديولوجيا السياسية. وبما أني لا أدعي معرفة بالمدافعين عن العلمانية (فضلا عن معرفة مشاربهم الفكرية) فإني لاأستطيع أن أجزم بأن غالبيتهم هم بالفعل من اليساريين أم لا.

من الممكن أن يكون الكاتب متأثرا بالمستجدات على الساحة التونسية حيث تتصدر حركة التجديد (الحزب الشيوعي سابقا) جبهة الكفاح من أجل العلمانية.

لو سلمنا جدلا بهذا الربط بين العلمانية واليسار وتسائلنا عن أسباب هذا الإهتمام "المفاجئ" بالعلمانية في أوساط اليسار لوجدنا أن الإجابة تكمن في خصوصية المرحلة : فنحن في البلدان ذات الأغلبية المسلمة و ـ أو العربية لم نحسم بعد قضية شكل الدولة (من المؤسف أن يكون الحال كذلك بعد نصف قرن من الإستقلال) وهذه المسألة بالذات تطرح نفسها بكل إلحاح على المستويين النظري والتطبيقي بعد أن عانت الشعوب ويلات الأنظمة العسكرية والإنقلابات والديكتاتوريات. فاليسار ـ كله أو بعضه ـ يتفاعل إذن مع واقع المرحلة بطرح تصوراته الخاصة، حتى وإن بدت هذه التصورات إسقاطية ومنبتة عن الواقع فهي لا تقل تجريدا ومثالية عن طروحات الإسلام السياسي.

من المصادفات أني اكتشفت مقال السيد الكحلاوي تقريبا في نفس الوقت الذي قرأت فيه لصادق جلال العظم مقالين عن العلمانية يوضح فيهما الفرق بين التنظير للعلمانية وبين إمكانات تحقيقها تاريخيا. فلا يمكن مثلا للإسلام أن يقبل العلمانية فقهيا وعقائديا، لكنه في الوقت نفسه قادر على استيعابها تاريخيا واجتماعيا. فالعظم يفرق بين "لا" عقدية (أو "صراطية") يحمل لوائها الإسلاميون وبعض المستشرقين الذين يصرون على "استثنائية" الإسلام، وبين "نعم" اجرائية أثبت الإسلام تاريخيا أنه قادر على قولها حين يتعلق الأمر باستيعاب متطلبات جديدة للمرحلة متناقضة مع عقائده.

تحليل العظم (تجدونه على الإنترنت تحت عنوان" العلمانية من وجهة نظر صادق جلال العظم" في جزئين) يتقاطع مع مقال طارق الكحلاوي في عدة نقاط، والمدهش أنه صادر عن أحد اليساريين السابقين الذين يتحدث عنهم الكاتب، وإن دل ذلك على شيء فإنه يدل على أن الكاتب كان متسرعا في حكمه على حاملي لواء العلمانية من اليساريين أو اليساريين السابقين، فهؤلاء ليسوا قطعا كلهم مستعجلين في قراءتهم للتراث كما يحلو للكاتب وصفهم

*****

وكخلاصة يمكن القول أن محاولة إعادة صياغة الحوار ووضعه في إطار الدراسة التاريخانية هي محاولة محمودة رغم أنها توقفت عند مرحلة معينة ولم تتناول مثلا التاريخ الحديث للممارسة السياسية (كيف يمكن مثلا ربط التجربة العلمانية التركية بماضيها العثماني ؟ هل أن تاريخ علاقة الدين بالدولة في تونس مثلا كان محددا لعلاقتهما اليوم في هذا البلد ؟...). وتبقى الرؤية التاريخية في رأيي زاوية نظر ليست لها أهمية إلا بقدر تفاعلها مع الواقع السوسيولوجي والسياسي للمسألة حيث يكمن لب الموضوع.

vendredi 21 septembre 2007

الإذاعة الدينية توحد من فرقتهم السياسة

سارعت على الأقل أربعة أحزاب معارضة إلى التهليل والتكبير بمناسبة انطلاق أول إذاعة دينية بتونس "بمبادرة من رئيس الدولة". وإن كنت لا أدري لماذا يُنسب كل ما يعتبر إنجازا إلى رئيس الدولة ، لا سيما وأن الإذاعة وحسب علمي على ملك أحد الخواص ولم يتم إنشائها من المال العام .

و لئن كانت تهاني حركة النهضة الإسلامية المحظورة للسيد الماطري صاحب المحطة الإذاعية غير متوقعة لقرب الأخير من السلطة ، فإن ما كان متوقعا أكثر هو ردة فعل الأحزاب الأخرى التي تنافست في إصدار البلاغات بهذه المناسبة . فمن حركة الديمقراطيين الإشتراكيين (يساري ) ، إ لى حزب الوحدة الشعبية (قومي اشتراكي) ، والحزب الإجتماعي التحرري (ليبرالي) مرورا بحزب الخضر للتقدم (إيكولوجي) ، لم تدع اتجاهات المعارضة الفرصة تمر دون تذكير العام والخاص بولائها الدائم للنظام . وغني عن التذكيرا أن بعض هذه الأحزاب إن لم يكن كلها تعتمد مرجعيات فكرية علمانية ولعل بعض النشطين داخل هذه الأحزاب من الماركسيين الملحدين المقتنعين بمقولة "الدين أفيون الشعوب". لكن القناعات الشخصية تسقط حتما لدى هؤلاء عندما يتعلق الأمر بتقديم فروض الطاعة والولاء لولي الأمر.

وبغض النظر عن المبادرات الإنبطاحية لأحزاب المعارضة المذكورة أعلاه ، فلسائل أن يسأل ماذا ستجني تونس من بعث إذاعة دينية ؟ ثم ماذا جنينا من بعث قرابة العشر إذاعات في 20 سنة ؟ هل تقوم هذه الإذاعات بواجبها الإعلامي ثم هل يستمع إليها الناس أصلا ؟ وما الفائدة من إهدار الوقت والطاقات في إنجازات نفرح بها يوم تدشن لننساها في اليوم الموالي ؟ لست ضد المبادرة الفردية وحرية الإنتصاب للمؤسسات الخاصة ، لكن ما يبعث على القلق في قضية الحال هو كون الإذاعة انطلقت "بمبادرة رئاسية" كما برز في تغطية الصحافة للحدث وفي بلاغات أحزاب المعارضة ، أي أن السلطة الأولى في البلاد قد دعمت وباركت هذه المبادرة الخاصة ففقدت بذلك طابعها الخاص وأصبحت بشكل أو بآخر في ضمن المنجزات العمومية ، ولعل بعثها في هذا التوقيت وبهذه الضجة الإعلامية دليل على أن السلطة تركب ركاب الموجة الدينية التي اعترت البلاد في السنوات الأخيرة مراهنة في ذلك على أن القيم الإسلامية المعتدلة هي الضامن الأمثل ضد ثقافة التطرف والعنف . إلا أنها مراهنة قد تكون خاسرة في نهاية الأمر. إذ يحق لنا أن نتسائل :

ـ هل أن الفهم العقلاني والمعتدل للدين الإسلامي الحنيف يمكنه أن يصمد أمام أنماط فهم متكلسة ناتجة عن خمس قرون من الجمود ؟ هل أن الأدبيات الإسلامية المعتدلة (كتابات الشيخ بن عاشور مثلا) متوفرة للعموم وفهمها في متناول الجميع أم أن الأدبيات الوهابية والإخوانية أقرب لأفئدة المؤمنين ؟

ـ كيف تعول الدولة (أو من يمثلها) على نسخة من الإسلام تسوقها بنفسها في حين اعتاد المواطن العادي عدم الثقة بمصادر المعلومات الرسمية ؟ ألا يكون ذلك دافعا للمواطن البسيط للبحث في مصادر المعلومة الأخرى مثلما اعتاد استقاء أخبار بلده من قناة الجزيرة ؟

ـ هل يمكن لهذه السياسة أن تنجح في حين أن مثيلاتها قد أثبتت فشلها في المغرب مثلا ، حيث الإسلام دين رسمي والملك أمير المؤمنين لكن ذلك لم يمنع شرائح كاملة من المجتمع من التحول إلى التطرف ؟

من الواضح أن موجة التدين الأخيرة ساعدت ممثلي الإسلام السياسي حتى يجرجروا الدولة ومسؤوليها إلى حلبتهم. أتذكرون كيف ضحك البعض من وزير الشؤون الدينية لعدم اطلاعه على أقوال بعض الفقهاء في الحجاب ؟ هذا ما ستجنيه علينا مثل هذه السياسات : المزيد من المهازل لمسؤولي دولة حديثة كان من المفروض أن يكونوا بعيدين تماما عن المجال الديني. لكن في تونس اليوم يشرف المسؤولون الكبارعلى المناسبات الدينية في حين يعرف الكثيرون حولهم أنهم يشربون الخمر ولا يقيمون الصلاة.

في الوقت الذي كان من المفروض أن يطرح فيه موضوع الإنتاجية في رمضان وأن تتجند طاقات البلاد لمناقشة معضلة الركود الإقتصادي خلال هذا الشهر ، تنبري صحفنا ووسائل إعلامنا إلى التنويه بإنطلاق الإذاعة الجديدة وكأن اقتصاد بلدنا ليس قضية ذات أولوية. أما بعض الملفات الإقتصادية المخصصة لبداية الشهر الفضيل فهي تركز على ضرورة عدم اللهفة على السلع لأن السلطات المختصة قد اتخذت كل الإجراء ات اللازمة لضمان تزويد الأسواق بما يلزم. وهذه "الإجراء ات الحكيمة" تتكلف طبعا بالعملة الصعبة التي نجنيها من سواح فعلنا المستحيل حتى نجلبهم لشواطئنا. إذن اللهفة هي مصدر كل داء خلال شهر رمضان ، والمواطن طبعا هو السبب في غلاء الأسعار ، أما انخفاض الإنتاجية فلا أحد يتحدث عنه. ربما لأن بركة رمضان تتنزل في الشيء القليل الذي ننتجه خلال هذا الشهر، أليس هذا خيرا بألف مرة من الكثرة وقلة البركة ؟

"إقحام الدين في السياسة يضر بالدين ويضر بالسياسة" كما يقول سيد القمني. لكن يبدو أن الجميع اليوم في تونس مصرون على إقحام الدين في السياسة حتى لو كلفنا ذلك الإبتعاد أكثر فأكثر عن العلمانية وعن الديمقراطية الحقة.


vendredi 14 septembre 2007

هل المعارضة في تونس حكر على الحركات الإسلاموية ؟


من الممكن إعطاء نظرة شاملة على الحركات المعارضة في تونس من خلال النظر إلى المرجعيات الإيديولوجية لتلك الحركات. وسيستنتج أي ملاحظ للساحة السياسية دون عناء كبير أن تلك المرجعيات لا تزيد إجمالا عن ثلاث : المرجعية القومية العربية ، المرجعية اليسارية والمرجعية الإسلاموية. وبالنظر إلى الوضع العالمي والمستجدات الإقليمية يمكن القول أن المرجعيتين الأولى والثانية فقدتا الكثير من بريقهما السابق ، فالقومية العربية لم تعد لها القدرة على التعبئة مثلما كان الحال أيام عبد الناصر ، في حين لازالت الحركات اليسارية تبحث عن هوية لها منذ انهيار الإتحاد السوفياتي . أما الإسلامويون ، فإنهم يملؤون الفراغ الذي تركته المعارضة "الرسمية" الغارقة في مشاكلها الداخلية والمهتمة بشهادات حسن السلوك النابعة من أعلى هرم السلطة


إن نظرة خاطفة إلى أبرز المواقع المعارضة التونسية على الأنترنات كفيل بأن يعطي فكرة عن مدى تلون تلك المواقع باللون الإسلاموي ، وإن لم يفصح ذلك اللون عن نفسه بشكل علني . ولعل الإتجاه الإسلامي يعتقد ، عن صواب أو عن خطأ ، أنه المعارضة الوحيدة الجادة في البلاد ، ويُستشَفّ ذلك من أقوال بعض الشخصيات المحسوبة عليه التي تتكلم باسم الشعب وباسم القوى الديمقراطية دون أن يكون أحد قد أعطاها توكيلا بذلك وربما ارتكز الإسلامويون أيضا على حركة رجوع إلى الدين داخل المجتمع ليعطوا الإنطباع لأنفسهم وللآخرين أن لهم شعبية كبرى بين طبقات الشعب


في مقابل ذلك ، يبدو أن المعارضة "العلمانية" بيسارييها وقومييها قد انساقت وراء اللعبة الإسلاموية جاعلة من مطالب الإسلامويين مطالبها الخاصة، حيث ظهر ذلك بشكل جلي في حركة 18 أكتوبر (نستثني هنا حركة التجديد ومن لف لفها وسنرجع للموضوع في مقال لاحق). لكن مهادنة الإسلامويين والتحالف معهم لم يكونا أبدا حصرا على المعارضة المعترف بها ، بل هو فن أجادته الدولة ـ الحزب قبل غيرها. فالجميع يعلم أن دولة ما بعد 7 نوفمبر قد اختارت لمكافحة الإسلام السياسي محورين اثنين على الأقل : الأول هو محور أمني بحت وقد نجحت فيه إلى حد بعيد والثاني هو محور سياسي يتلخص في سلب الإسلاميين شرعيتهم وذلك من خلال إعطاء بعد إسلامي للنظام وإدماج عناصر من الخطاب الإسلاموي ضمن الخطاب الرسمي. إذ كانت الحركة تستمد شرعيتها في ظل النظام السابق من معاداة الدولة ممثلة في شخص بورقيبة لمظاهر التدين والإستناد إلى مرجعيات غير دينية في تحرير النصوص التشريعية والقانونية


إن الشواهد على تحرك الدولة في اتجاه الطروحات الإسلاموية كثيرة ، وترجع بداياتها إلى أول عهد التغيير. فرفع
الآذان في أجهزة الإعلام الرسمية ، والتغطية الإعلامية لإشراف الرئيس على الإحتفالات الدينية ، وأخيرا وليس آخرا تشييد جامع العابدين ، كل تلك كانت واجهة إسلامية للسلطة تمحو بها السمعة اللادينية لدولة الإستقلال. ولعل أحد أهم مظاهر الإدماج هذه (وإن لم يكن يحمل دلالات سياسية عميقة) هو اكتساح اللون البنفسجي لكل المشهد البصري في تونس. فمنذ سنوات أصبح اللون البنفسجي اللون الغير الرسمي لرئاسة الدولة ثم أصبح تدريجيا اللون المحبذ للدولة التونسية وإداراتها ومؤسساتها ، في حين أن ذات اللون كان في الأصل اللون الرسمي لحركة النهضة ، ولا تزال إلى اليوم أحد أبرز مواقع الأنترنات المحسوبة على هذا التيار ترتدي حلةً بنفسجية. أما آخر هذه الإشارات فيتمثل في بعث إذاعة الزيتونة بمعرفة بل وبمباركة من النظام (خاصة وأن صاحب المحطة من أصهار الرئيس). فالسؤال الذي يلح علينا والحال هذه : هل نحن بصدد معايشة تحول جذري داخل الحزب الحاكم في اتجاه تعزيز الجانب الإسلامي للدولة ؟ هل وجد التجمع في المزايدة على الإسلامويين وطروحاتهم حلا لعجزه المتواصل عن تجديد نفسه ؟

التجمع اليوم بعيد عن الحزب الدستوري غداة الإستقلال. فالشغل الشاغل اليوم هو المحافظة على المكاسب فحسب وليس الدفع في اتجاه المزيد من العلمانية في الممارسة السياسية. لقد أصبحت كلمات مثل : العلمانية ، الحداثة ، التقدم كلمات سيئة السمعة بفضل خطابات الإسلاميين المتهجمة على هذه المفاهيم التي لا يفهمونها أصلا. والحزب الحاكم الذي لا يتوانى عن تغيير القوانين حسب الظروف بموجب وبغير موجب ، لا نتوقع منه اليوم أن يقدم مشروع قانون لدسترة فصل الدين عن الدولة أو لتعميم المساواة بين الجنسين على حق الميراث


إن مبررات مثل هذا التحول كثيرة ومقبولة في مجملها. فمن مسايرة نبض الشارع المتدين إلى ضرورة قطع الطريق أمام الإسلامويين تبدو الأعذار جدية وذلك رغم قناعتي أن أحد أهم الأسباب في ذلك هو كون الحزب الحاكم نفسه استنفد مرجعياته الفكرية وبقي يبحث عن بديل لأطروحاته المتأرجحة تارة إلى اليسار وتارة إلى اليمين ، ثم أن الطبقة السياسية إجمالا متكونة من رجال متقدمين في العمر نسبيا ولعل الدين بدأ يأخذ أهمية في حياتهم الخاصة فأضحوا يبحثون عن "التوبة" من خلال عملهم السياسي . لكن مواطنا مثلي متشبثا بالمبادئ العلمانية للدولة (وإن لم تبلغ مرحلة نضج كاف في الحالة التونسية) يجد نفسه مضطرا إلى التساؤل عما إذا كان الأمر سيقف عند هذا الحد. فلربما كان هذا الشكل المتأسلم للدولة مقدمة لاختراق اسلاموي من داخل أجهزة السلطة وهو ما لا نتمناه أبدا لبلادنا


من المؤكد اليوم أن كل من يدافع عن العلمانية يجد نفسه وحيدا بين سلطة من المفترض أن يقف في صفها لكونها الحامية الشرعية للمكتسبات العلمانية وبين معارضة إسلاموية ترى فيه في أفضل الحالات ذيلا من ذيول النظام وفي أسوأها كافرا زنديقا خارجا عن الملة. هل حقا يوجد فضاء لمعارضة حقيقية خارج إطار المرجعيات الدينية إذا علمنا أن الدولة لها رغبة متزايدة في الظهور بمظهر إسلامي في حين أن المعارضة تمني النفس بتغيير شكل الدولة إلى دولة دينية ؟